يمكن نسب جزءًا كبيرًا من النظام الحالي للعدالة الجنائية الدولية إلى القرار الذي اتخذ بمحاكمة القيادة النازية بنورمبرج في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات اللاحقة، بُذلت المزيد من الجهود لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الآخرين، وبعد نهاية الحرب الباردة أصبح للقانون الجنائي الدولي فاعلية غير مسبوقة. وفي منتصف التسعينيات، أنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المحكمتين الجنائيتين الدوليتين المخصصتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا، كما أُنشئت محاكم أخرى تجمع بين عناصر القانون الدولي والمحلي والموظفين (انظر المحاكم المختلطة أدناه)، بما في ذلك الدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا، والمحاكم الخاصة للبنان، و المحكمة الخاصة لسيراليون.
أُنشئت هذه المحاكم الدولية ليكون لها الأسبقية: فهي – وليس نظام العدالة المحلي للدولة المعنية – تتمتع بالولاية القضائية والقدرة على التحقيق في الجرائم الدولية، ووجهت الانتقادات للعديد من المحاكم بسبب ذلك ولتطبيقها المزعوم لعدالة المنتصر، وتكلفة ذلك، وعدم كفاية الصلة بالمجتمعات المحلية (انظر الانتقادات أدناه)، وكان بعضها، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، قادراً على محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية مثل أطراف النزاع المختلفة، كما ركز آخرون – كالمحكمة الجنائية الدولية لرواندا – تركيزًا حصريًا على الفظائع التي ارتكبها أحد الأطراف السياسية وإحدى المجموعات العرقية، وساعد النهج المخصص للمساءلة على إثارة الاهتمام بإنشاء مؤسسة دائمة تكون قادرة على التحقيق في الجرائم الدولية ومحاكمة مرتكبيها.
اُعتمد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في عام ١٩٩٨ وأصبحت المحكمة الجنائية الدولية الدائمة أمرًا واقعًا في عام ٢١١٢، وتتألف هذه المحكمة من أربعة أجهزة رئيسية وهي: هيئة الرئاسة، والدوائر القضائية، وقلم المحكمة، ومكتب المدعي العام، وتعتبر المحكمة بمثابة حل وسط بين الصلاحيات السيادية للدول والتطلع إلى وجود ولاية قضائية عالمية لمقاضاة مرتكبي جميع الفظائع حول العالم، وتضم المحكمة – التي يقع مقرها في لاهاي – ١٢٣ دولة عضو حاليًا، كما أن العديد من الدول القوية مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والهند، والصين ليست من ضمن الدول الأعضاء ولا تزال خارج نظام روما الأساسي. ولم تُنشأ المحكمة الجنائية الدولية فقط ليكون لها الأسبقية، فهي تعمل على مبدأ التكامل، فلا يمكن للمحكمة إجراء التحقيقات أو محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية المزعومين إلا عندما تكون الدولة المعنية غير قادرة وغير راغبة في التحقيق في الجرائم ذات الصلة ومقاضاة مرتكبيها. ودعت المحكمة في السنوات الأخيرة إلى اتباع سياسة “التكامل الإيجابي” بهدف تشجيع السلطات المحلية على التحقيق في الجرائم الدولية ومحاكمة مرتكبيها داخل مؤسساتها القضائية الوطنية.
ثمة ثلاث آليات يمكن للمحكمة الجنائية الدولية من خلالها بدء التحقيق، ويُطلق عليهم “آليات بدء العمل”، وهم: الإحالة من دولة عضو، والإحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وبدأ التحقيق تلقائيًا، أي عندما يوافق قضاة المحكمة الجنائية الدولية على طلب المدعي العام الرئيسي بفتح التحقيق، وأجرت المحكمة العديد من التحقيقات حتى الآن، بما في ذلك في الأوضاع في أوكرانيا، وكينيا، وبوروندي، وليبيا، ودارفور، وأجري التحقيقين الأخيرين بناء على إحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عامي ٢١٠٥ و٢٠١١ على التوالي، كما أجرت المحكمة العديد من التحقيقات الأولية. واستنادًا إلى قائمة محددة من المعايير، يحدد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية خلال هذه المرحلة ما إذا كان هناك ما يبرر التحقيق في الوضع، وتجري المحكمة حاليًا تحقيقين من هذا القبيل بشأن الوضع في فنزويلا الثانية والوضع في نيجيريا.
منذ إنشائها، قاضت المحكمة الجنائية الدولية ما يقرب من أربعين شخصًا، وكان من ضمنهم كبير ضباط سابق في جيش الرب للمقاومة دومينيك أوغنوين من أوغندا، وزعيم المتمردين من جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتوماس دييلو لوبانغا، والمتشدد الإسلامي السابق أحمد الفقي المهدي من مالي. وفي عام ٢٠٢٠، سلم علي محمد علي عبد الرحمن نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، ولا تزال محاكمته جارية منذ أبريل عام ٢٠٢٢، باتهامه بارتكاب ٣١ جريمة حرب وجرائم ضد الإنسانية يُزعم أنها ارتكبت في دارفور بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤. ولاتزال تجري المحكمة الجنائية الدولية أيضًا عدد من المحاكمات الأخرى، بما في ذلك محاكمات أربعة مشتبه بهم من جمهورية أفريقيا الوسطى، ومن ضمن المطلوبين للتقديم للمحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني السابق عمر البشير، بسبب الجرائم الدولية المرتكبة في دارفور، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بسبب مزاعم بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
لم يسلم القانون الجنائي الدولي من النقد، فوجه العديد من الباحثين و الضحايا والناجين والدول و الراصدين ذي الصلة مجموعة من الانتقادات لمحاكم القانون الجنائي الدولي، من ضمن هذه الانتقادات ومن بينها الانتقادات القائلة بأن القانون الجنائي الدولي يحبط الجهود التي تُبذل للتفاوض على السلام، وكانت المحاكم شأنها شأن المحكمة الجنائية الدولية – تميل إلى التدخل في النزاعات المستمرة، الأمر الذي آثار مخاوف من عدم وعي المحاكم على نحو كافٍ بكيفية تأثير قراراتها على تسوية النزاعات، وثمة نقد آخر دائمًا ما يوجه وهو أن محاكم الدولية منفصلة عن الواقع المحلي و بمعزل عن الضحايا والناجين. ووجه النقد للعديد من المحاكم بسبب رفع توقعات المجتمعات المتضررة على الرغم من عجزها عن تلبية هذه التوقعات، مما أدى إلى الشعور بالإحباط بين المتضررين من الجرائم الدولية.
كما ذُكر أعلاه، من النادر أن تقاضي المحاكم الدولية جميع أطراف النزاع، ولذلك، اتُهمت العديد من المحاكم بالتحيز الانتقائي تجاه جهات فاعلة محددة بالإضافة إلى تطبيق عدالة المنتصرين، وبالإضافة إلى ذلك، تعرضت المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات – على الرغم من تراجع هذا النقد في السنوات الأخيرة – بسبب تحيزها المزعوم ضد الدول الأفريقية، وعلى الرغم من أن الحكومات الأفريقية طلبت تدخل المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن المحكمة لم تفتح حتى وقت قريب تحقيقات أو تصدر أوامر بإلقاء القبض في سياقات غير أفريقية، ولا تزال العديد من الدول و الراصدين ينتابهم القلق بشأن العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والقدرة الواضحة للدول الأعضاء الخمس الدائمة في المجلس – المملكة المتحدة وفرنسا والصين وروسيا والولايات المتحدة – على التأثير في عمل المحكمة وقراراتها. وبشكل عام، تتعرض المحكمة الجنائية الدولية لانتقادات بسبب تأثيرها أو انعدامه – على السلام، والمصالحة، والعدالة، وسيادة القانون، وما إلى ذلك، ومن المهم الإشارة إلى محدودية موارد المحكمة، واعتمادها اعتمادًا كليًا على إرادة الدول في إنفاذ أوامر إلقاء القبض والسماح لها بالوصول إلى الحالات التي تستدعي إجراء تحقيقات، بالإضافة إلى أنه نظرًا لتنوع الأطراف المعنية في المحكمة الجنائية الدولية، فمن المستحيل أن تتمكن المحكمة الجنائية الدولية – أو أي محكمة أخرى –من إرضائهم جميعاً في كل وقت.
لا يوجد نهج واحد يناسب جميع الحالات فيما يخص القانون الجنائي الدولي، فيمكن اتباع هذا القانون على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية وفيما بين الدول، وغالبًا ما تتداخل هذه المستويات مع بعضها البعض، وإلى جانب المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، أنشأت الدول العديد من الهيئات والآليات للتحقيق في الجرائم الدولية ومقاضاة مرتكبيها، وهي كالآتي:
وفقًا للسفير الأمريكي السابق المتجول ستيفن راب، لا يوجد نظام للعدالة الدولية، فقط بعض التجارب في بعض الأماكن لبعض لبعض الوقت، فلا يزال القانون الجنائي الدولي مجالًا مجزأً في عدة نواحي، ويتمثل التحدي الرئيسي في السنوات المقبلة في مقاومة التفكك وتعزيز نظام متماسك للقانون الجنائي الدولي – أي نظام مستقر ويمكن التنبؤ به ويفسح المجال لتعزيز القدرة على التصدي للجرائم الدولية على المستويات المحلية، مما قد يساعد في ضمان تحقيق العدالة في أكثر الأماكن احتياجًا لها مثل: أي الأماكن التي يتواجد فيها الضحايا والناجين والمجتمعات المتضررة، ومن أجل تحقيق ذلك، يجب أن يحصل الجميع على العدالة، فلن تنجح أي محاكمة إذا لم تكن عادلة أو إذا كانت معقدة أو يصعُب وصول المجتمعات المتضررة والمهتمة إليها.