بعد أكثر من تسعة أشهر من اندلاع القتال بين الجيش والدعم السريع، يجد السودانيون أنفسهم أمام مخاطر اندلاع حرب أهلية حال استمرار انتشار السلاح وسط المدنيين في عدة مناطق سودانية.
وفي الخامس عشر من أبريل العام الماضي، انقلب الجنرالان المتحالفان منذ سقوط نظام البشير على بعضهما البعض، إثر احتدام المنافسة بينهما على السلطة والثروة والنفوذ.
وتوسعت دائرة الحرب التي بدأت في العاصمة الخرطوم لتشمل إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية الجزيرة بوسط السودان وعدة مناطق سودانية أخرى.
كان استيلاء قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من ولاية الجزيرة، أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى ارتفاع الأصوات المنادية بتسليح المدنيين لحماية أنفسهم من أعمال القتل والسلب والنهب والاغتصاب على يد قوات الدعم السريع المتهمة بارتكاب هذه الجرائم في كل المناطق التي تقع تحت سيطرتها.
ويعتبر أستاذ السياسة العامة والإدارة، بكري الجال المدني، أن أي دعوة رسمية لتسليح المدنيين في الوقت الحاضر، تعتبر دعوة ذات طابع سياسي، خاصة أن دعوات تسليح المدنيين، لم تأت كرد فعل طبيعي من المواطنين الذين يرغبون في الدفاع عن أنفسهم.
ويرى المدني، بأن دعوات تسليح المدنيين تعتبر دعوة سياسية. إلا أنه يعتقد أن الدفاع عن النفس يعد سلوكاً طبيعياً ينتهجه الناس عند الشعور بالخطر.
وعلى الرغم من حق المواطنين في الدفاع عن أنفسهم أمام الهجمات التي يتعرضون لها، يذهب المدني في مقابلة مع (عاين) إلى أن تسليح المدنيين الذي يجري الآن على نطاق واسع في المناطق التي يسيطر عليها الجيش عبارة عن حملة منظمة لها أبعاد سياسية.
ومنذ بدء الحرب، نشأت سرديتان من قبل طرفي النزاع، فبينما اعتبرتها القوات المسلحة حربا للكرامة، ودعت المواطنين للاستنفار. ظلت قوات الدعم السريع تتحدث عن ضرورة إسقاط دولة “56” في إشارة إلى دولة الامتيازات التاريخية على حساب المهمشين التاريخيين واستعادة الديمقراطية.
يقول المدني حول ذلك، “أن كلتا السرديتين لم يجدا تفاعلاً ولا قبولاً لدى الشعب السوداني”. وبينما استمرت قوات الدعم السريع في استخدام قدراتها المالية في عمليات التجنيد في المناطق الطرفية الفقيرة، فإن دعوات استنفار المواطنين عن طريق الجيش لم تكن بالحجم الذي يقود إلى تغيير المعادلة العسكرية على الأرض.
وفي هذه الجزئية، فإن المدني يرى، أن خطاب الجيش الذي يتصل بحرب الكرامة واستنفار المواطنين لحمل السلاح فشل في تقديم سردية تقنع السودانيين في خوض الحرب جنبا إلى جنب معه أو بالنيابة عنه.
وهذا الفشل، بحسب أستاذ السياسة العامة والإدارة، بكري الجاك المدني، انطبق على سردية قوات الدعم السريع في محاولتها لاكتساب الشرعية، ما أدى إلى محاولتها تقديم سردية جديدة، خصوصاً في إقليم دارفور بمحاولة إظهار هذه القوات كحركة مسلحة احتجاجية تهدف لإنهاء التهميش في السودان.
لكن، بالنسبة للمدني، فإن هذه السردية التي يحاول تسويقها الدعم السريع تعد حديثاً عاماً.
ويشير إلى أن السردية الحقيقية أن قوات الدعم السريع، تعتبر أنها تخوض حرباً وجودية لا خيار فيها إلا حمل السلاح وتحقيق الانتصار.
كما أنهم وفقاً لسرديتهم، يعتبرون أن الهزيمة تعني الوقوع بين مطرقة قبائل الزرقة وسندان “عرب البحر” وهو الأمر الذي يجده الجاك “مؤسفاً”.
ولفت إلى أن سردية الجيش، المتصلة بتسليح المواطنين من جانب وسردية الدعم السريع المُشار إليها من جانب آخر يدعمان بعضهما البعض، وكلاهما سيقودان لمحرقة كاملة في البلاد.
وأكد المدني، أن تسليح المدنيين لأخذ حقوقهم عن طريق السلاح سيقود لنهاية مظاهر الدولة الحديثة التي يجب أن تحتكر العنف.
كما اعتبر أن تسليح المدنيين لن يكون لحماية أنفسهم فقط من أي هجوم متوقع من قبل قوات الدعم السريع، بل لأخذ حقوقهم بالسلاح من أي جهات أخرى أيضاً، وهو ما عده مشروعا لاندلاع الحرب الأهلية في السودان.
وأوضح أن اللحظة التي يتم تسليح المدنيين، فإن المؤكد هو توسع دائرة الحرب وتعدد الغبائن، خاصة وأن حمل السلاح عادةً ما يمنح شعوراً بإمكانية أخذ الحق باليد، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تحول الضحايا أنفسهم لجناة.
من جانبه يرى الكاتب والمحلل السياسي الشفيع خضر، أن دعوات تسليح المدنيين أو المجموعات القبلية تتم دائماً بناء على تخطيط من دوائر متنفذة في من السلطة الحاكمة لأسباب سياسية.
وأوضح في مقابلة مع (عاين) أن انتشار السلاح خارج القوات النظامية حدث في السودان نتيجة للحروب المتعاقبة، إلا أنه كان انتشار محدوداً ومحصوراً في مناطق بعينها، ثم انتشر بعد ذلك في المناطق الأخرى من البلاد.
وبالعودة إلى تاريخ انتشار السلاح لدى المدنيين، فإن الشفيع يعود إلى فترة الديمقراطية الثالثة (١٩٨٦ ــــ ١٩٨٩)، التي يقول إنها شهدت توزيع السلاح بطريقة منظمة على القبائل في منطقتي دارفور وكردفان.
ويرى بأنه على الرغم من الحكومة أعلنت وقتها أنها وزعت السلاح لحماية المواشي إلا الهدف الحقيقي هو إنشاء قوات تقاتل سويا مع القوات المسلحة السودانية ضد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان.
وأضح أنه، وبعد انقلاب ١٩٨٩ تتطور توسع انتشار السلاح عن طريق سلطة “الإنقاذ” في مسألة تسليح المدنيين بهدف تكوين مليشيات مقاتلة لتساعدها في حربها ضد المعارضة المسلحة في إقليم درافور.
وأمام عجز القوات المسلحة والقوات النظامية عن حماية المدنيين، فإن الكاتب والسياسي الشفيع خضر يرى أن رغبة المواطنين في التسليح رغبة موضوعية وطبيعية، على الرغم من خطورتها.
ويعتبر أن الخطورة تكمن في أن بعض المواطنين الذين يحملون السلاح يمكن أن يقودهم موقفهم السياسي المحدد للدفاع عنه بواسطة السلاح أمام الآخرين الذين لا يتفقون مع موقفهم مما سيقود لأن يحل الرصاص مكان الحوار.
ويلفت خضر، إلى أن الوجه الثاني لتسليح المدنيين هو التسليح على أساس إثني، مما قد يقود إلى أن يصبح القتل على هذا الأساس.
ورأى بأن هذه المخاطر يؤكدها الواقع، فقد تم تسليح بعض المدنيين في بعض المناطق، بينما لم تُسَلَّح إثنيات أخرى؛ لأنها من المحتمل أن تكون حاضنة لقوات الدعم السريع؛ مما يفتح الباب لأن يكون القتل على أساس طريق الهوية أو الخلاف السياسي. وأكد بأنه من الممكن نشوء مقاومة شعبية تبتدع أشكال سلمية ضد الحرب.
ولفهم قضية تسليح المدنيين التي تتم على نطاق واسع في عدة مناطق من السودان، يرى ممثل مبادرة الخلاص الوطني بولاية القضارف، جعفر خضر، أن الجيش السوداني في أثناء حرب الجنوب عمل وقتئذ على توظيف التناقضات والتباينات في المجتمعات لإنشاء قوات درج على تسميتها بـ”الصديقة” وظلت محاولات الدولة لإنشاء مثل هذه القوى ملازماً لتاريخ الدولة السودانية.
وأشار جعفر في مقابلة مع (عاين) إلى بروز عدد من الحركات المسلحة في جنوب السودان آنذاك، وفي إقليم دارفور التي نشأت كحركات تطالب بإلغاء الظلامات التاريخية، واستخدمت السلاح للقيام بذلك، كما لفت لنشوء حركات مسلحة أيضاً بشرق السودان في تسعينيات القرن الماضي عقب انقلاب “الإنقاذ”.
وأوضح أن هذا التاريخ المليء بالحروب والأزمات منذ العام ١٩٥٥ وحتى الآن جعل من السلاح أداة موجودة ومنتشرة خارج القوات النظامية.
ولفت إلى أن حرب الخامس عشر من أبريل كشفت الضعف الجيش الذي يشير إليه التراجع أمام تمدد قوات الدعم السريع، معتبراً أن هذا الضعف هو جزء من الحقيقة.
وأوضح بأن هناك جانباً آخر من الحقيقة، يتمثل في أن مليشيا قوات الدعم السريع لا تخوض القتال في السودان منفردة، بل عن طريق دعم كامل من دول خارجية أبرزها الإمارات.
ووصف خضر، أن الحرب الدائرة في السودان ليست بين “الجنجويد” -في اشارة لقوات الدعم السريع- والجيش السوداني، ولكنها بين “الجنجويد” والشعب السوداني. ودلل على قوله بالإبادة الجماعية والاستهداف الذي طال قبيلة “المساليت” من قبل “الجنجويد، فضلاً عن انتهاكات قوات الدعم السريع في الخرطوم العاصمة وولاية الجزيرة التي تتمثل في الاغتصاب والنهب الممنهج لممتلكات المواطنين”.
وأشار إلى أن اقتحام “الجنجويد” لولاية الجزيرة بوسط البلاد، أدى إلى نزوح المواطنين، بينما اختار آخرون عقد اتفاقات مع قوات الدعم السريع في بعض المناطق من أجل أمن وسلامة المنطقة المحددة، على الرغم من أن قوات الجنجويد لم تلتزم بهذه العهود في بعض المناطق.
وأوضح أن دعوات تسليح المدنيين وجدت رواجاً أكبر عندما دخلت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة.
ولفت إلى أن تصدر عناصر المؤتمر الوطني “الكيزان” لقضية تسليح المدنيين في مدينة القضارف شرقي السودان، أدى إلى إحجام المواطنين، إلا أن عدداً ليس قليلاً من منهم استجاب لهذه الدعوات.
وبحسب خضر، فإن أحد الأسباب التي أدت إلى استجابة جزء من المواطنين لدعوات التسليح هو قوات الدعم السريع تستهدف المواطنين، بينما يكمن السبب الآخر في عجز الجيش في الدفاع عن المواطنين. وأكد ذلك بانسحاب الجيش أمام قوات الدعم السريع في عدد من المناطق، تاركاً المواطنين لمواجهة مصيرهم.
على الرغم من مخاطر انتشار السلاح الآنية التي من بينها قدرة الدولة على جمع السلاح مستقبلاً، فإن ممثل مبادرة الخلاص بمدينة القضارف يشير إلى أن المشكلة الحاضرة الآن تتمثل في كيفية مواجهة السودانيين لانتهاكات الدعم السريع التي تتمثل في القتل والاغتصاب والنهب والسرقة.
وأوضح بأن جهود الفاعلين في المشهد السياسي السوداني، يجب أن تصب في الحديث مع “الجنجويد” ومطالبتهم بعدم التمدد عسكرياً ووقف الانتهاكات ضد المواطنين.
كما دعا من أجل العمل على وقف الحرب، التي سيقود إنهاؤها لعدم حاجة المواطنين لحمل السلاح دفاعا عن أنفسهم.
كما أكد ضرورة العمل على إعادة تعريف الأطراف المشاركة في هذه الحرب وتسمية المشاركين فيها بوضوح. وأوضح بأن معظم القوى السياسية لا تستطيع توجيه انتقادات لدولة الإمارات والقوى الإقليمية والدولية المشاركة الحرب حتى الآن.
وأضاف: كما يجب علينا أن نؤكد بشكل واضح على أن هذه الحرب هي حرب ضد الشعب السوداني، معتبراً أن وصفها كحرب بين “الجنجويد” “وكيزان الجيش” يعتبر توصيفاً خاطئاً.