تضج وسائل التواصل الاجتماعي في السودان بمحتوى ضخم يكرس لهتك النسيج المجتمعي، قد يؤدي إلى دائرة صراع وحرب أهلية لا تنتهي. لكن السؤال هنا، من المسؤول عن تصدير خطاب الكراهية لوسائل الإعلام، والغرف الإلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي؟
تهتم عدد من الصفحات على منصات الفيس بوك والتيك توك وتويتر والكلاب هاوس وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، ببث خطاب التمييز والعنصرية، في محتوى يوهم بفتح مجال لمناقشة أسباب أزمات السودان وادعاءات بفتح المجال للتعبير عن الآلام التاريخية، واحترام حريات التعبير، إلا أنها أصبحت قنوات لتكريس خطاب الكراهية بامتياز.
ولا تعتبر هذه الظاهرة الأولى من نوعها في آليات شق الصفوف والتحشيد في السودان، والذي قد تأخذ طابعا قبليا وثقافيا وحزبيا أو حتى إقليميا. فقد اعتادت الحكومات والأحزاب السياسية وغيرها من الكيانات ببث ذات الخطاب مع اختلاف الوسائل، وهذا ما أشار إليه الأستاذ محمد بدوي، الباحث في المركز الإفريقي للعدالة ودراسات السلام.
وقال بدوي أنه وحتى قبل سقوط النظام البائد ١١ أبريل ٢٠١٩، كان السودان يزخ تحت وطأة الدولة الدينية منذ العام ١٩٨٣ وإعلان الجهورية الإسلامية قوانين سبتمبر، التي أصدرها الرئيس الأسبق جعفر نميري بمساعدة المفكر وعراب الحركة الإسلامية في السودان حسن الترابي.
وسقط النظام الإسلامي في السودان بقيادة الرئيس عمر البشير، في ١١ أبريل ٢٠١٩ بموجب انتفاضة وثورة شعبية، نادت بالحرية والسلام والعدالة، وتكونت بمجوبها وثيقة دستورية تشارك فيها العسكر والمدنيين الحكم لمدة 39 شهرا، إلا أن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان قرر تعليق العمل بها في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١؛ مما اعتبره المدنيون انقلابا عسكريا.
ويقول بدوي، على سبيل المثال، أن العديد من الأحداث التي تمت مثل أحداث الضعين أو “مجزرة الضعين” في ١٩٨٧، وقبلها التجمع العربي في دارفور في ١٩٨٦ تعتبر نتاجاً وسياقاً لخطاب تمييزي مرتبط باختلال السياسات المركزية الاقتصادية والسياسية من وقت مبكر. مضيفا أنه جاء نتيجة لانحياز الدولة للقطاع الرعوي في غرب السودان والقطاع الزراعي في شرق السودان، وهذا من أُسس محركات خطاب التمييز لارتباطه بتوجه الدولة الاقتصادي.
واتبع بدوي أن في نوفمبر ١٩٨٩ تكون الدفاع الشعبي بعد خمسة أشهر من انقلاب ١٩٨٩، وهذا جاء كتهيئة لتحويل الحرب السياسية بين الخرطوم والحركة الشعبية، إلى حرب جهادية وهذا بالضرورة ألحق بها قاموس كامل من التمييز. وكذلك الحركة الإسلامية لم تسلم من الحالة، فانقسام ١٩٩٩ إلى حزبي المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني اتخذ طابعا شبه جغرافي من حيث العضوية.
وأضاف أنه جاءت حرب دارفور في ٢٠٠٣ كعقاب جماعي للمدنيين المنحدرين من أصول مشتركة مع قادة حركات دارفور. كما جاءت حرب دارفور بقاموسها لتحدث تحولاً في قاموس ١٩٨٦ عقب تشكل التجمع العربي من عرب وزرقة إلى جنجويد وتوربورا.
وأشار بدوي أن سياق العام والأرضية المشتركة لكل هذه الحقب المتسمة بخطاب الكراهية أدى إلى بروز الرقابة على الإعلام من قبل السلطة لتشمل الكتاب والصحف المعارضة، لكن بالمقابل كانت إذاعة أمدرمان تبث حديث الصباح للرائد آنذاك يونس محمود والتلفاز القومي يبث برامج ساحات الفداء. واشتهر البرنامجان بنشر خطاب الكراهية. كما برز خطاب الكراهية في عريض مانشيت لإحدى الصحف الموالية للسلطة التي وصفت النساء اللائي خرجن في مظاهرة سلمية ضد قمع حقوقهن بالعاهرات، وهو مثال لاستخدام خطاب الكراهية لمواجهة حرية التعبير.
ولفت أن الحال استمر حتى بعد سقوط نظام البشير حيث قام مؤيدوه في نشر خطاب الكراهية عبر كافة الوسائط وحتى في منابر دور العبادة، وهو ما ينطبق ما يحدث حاليا حيث يخرج بعض قادة العمل التنفيذي من أعضاء النظام السابق علنا تحت مظلة التعبئة أو الاستنفار لبث خطاب الكراهية. وأضاف أن كل هذا المحتوى يعتبر صنفا من أصناف خطاب الكراهية؛ لأنه يروج لانتهاك الحق في الحياة والمواطنة، واستمراره مرتبط بصورة مباشرة مع استمرار الحرب وغياب الإعلام المستقل المؤثر، والتضييق على قوى الثورة التي تعمل على مناهضة خطاب الكراهية.
من ناحية أخرى، يقول الصحفي والمحلل السياسي أحمد داوود أنه لا يمكن فهم تنامي خطابات الكراهية في الفترة ما بعد حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣ دون فهم نوعية هذه الحرب. وأضاف من الصحيح أنه كان هنالك خطاب يؤسس للكراهية قبل الحرب، لكن هذه الحرب هي بمثابة اللحظة المنتجة عمليا ومؤسساتيا لهذا النمط من الخطاب.
وأضاف أن طرفي الصراع العسكريين غير مؤهلين لإنتاج تنظير سياسي ومعرفي يمكن أن يستميلا السودانيين، لذلك لجأوا إلى خيار الأسهل وهو الاستثمار في خطاب الكراهية المبني على العرق.
وأتبع قائلا “أستطيع أن أؤكد الآن وجود غرف لتصدير هذا النمط من الخطاب، بحيث يصطنع ورثة الدولة القديمة صورة مشوهة للدارفوريين بوصفهم برابرة وقتلة ومغتصبين كذريعة للقضاء على خصومهم، ينما يوظف الدعم السريع المواصفات السالبة التي اصطنعها عن مجتمعات الوسط والشمال للتبرير لانتهاكاته وتشكيل وعي عام متسق مع مشروعه”.
ويتفق الصحفي والمحلل السياسي محمد عبد العزيز مع هذا السياق، حيث يرى أن خطاب الكراهية الشائع على منصات التواصل الاجتماعي الآن، هو الحلقة الأساسية من أجندة إجهاض الثورة الشعبية التي أسقطت النظام الاستبدادي في العام ٢٠١٩.
وأضاف أنه من هذا الخطاب يظهر جليا من هم الأعداء الحقيقيون للثورة السودانية، َوأشار أن الجهات التي بدأت الحرب هي نفسها التي تعتمد على خطاب الكراهية كسلاح لدق مسمار آخر في عرش ثورة ديسمبر.
ولفت أن طرفي النزاع يستخدمون هذا الخطاب في انسجام وكأنهم يعزفون ذات النوتة الموسيقية، وأشار كذلك لتبادل أدوار واضحة من طرفي الحرب عن طريق أذرعهم وممثلي غرفهم الإلكترونية على المنصات.
وقال عبد العزيز أن المحتوى الآن في وسائل التواصل الاجتماعي يعتبر تضليلا إعلاميا واضحا يهدف لتحويل الصراع بين الطرفيين العسكريين إلى حرب أهلية، وأشار إلى أن هناك أيضا مسؤولين مدنيين وصحفيين وشخصيات بارزة تقود هذا الخطاب في محاكاة لما حدث في دولة رواندا، رغم أن هناك قوانين رادعة، والتي تعتبرها جريمة حرب بامتياز، حيث يوجد في المادة ٦٤ بنداً يجرم خطاب الكراهية وإثارة الفتن العرقية والدينية. ومع ذلك، يرى الباحث الحقوقي عبد الباسط الحاج أن هذه القوانين غير رادعة بشكل كاف.
ويقول عبد الباسط إن هذه القوانين فضفاضة وغير دقيقة، ولم تنص بشكل واضح أي نوع من الفتن أو ما مداها مضيفا أن العقوبة في هذه المادة هي السجن لمدة عامين أو الغرامة أو العقوبتين معا.
ويتضمن قانون جرائم المعلوماتية في السودان للعام ٢٠٢٢ البنود نفسها فيما يخص تجريم خطاب الكراهية تحت مادة تأجيج الفتن، وذلك بحسب مولانا عبد المنعم عبد الحافظ رئيس نيابة جرائم المعلوماتية. وأضاف عبد المنعم أن القانون ينص على أن إثارة الكراهية ونشر العبارات التي تؤدي إلى الكراهية لها عقوبة قد تصل إلى السجن المؤبد.