سجل طويل من الانتهاكات التي ظل يتعرض لها المسيحيون في السودان على مرّ الأنظمة التي تعاقبت على الحكم، حتى جاءت حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل ٢٠٢٣، لتزيد معاناة مسيحيي السودان والانتهاكات بحقهم، حيث رصدت منظمات حقوق الإنسان المئات من مختلف الانتهاكات، بما في ذلك تدمير الكنائس، وتحويلها لثكنات عسكرية من قبل طرفي الصراع، بجانب القتل والتهجير.
تشير تقارير حقوقية أيضًا، إلى تعرض العديد من دور العبادة في السودان إلى تدمير خلال المواجهات العسكرية في السودان. فبحسب الأمين العام لمجلس الكنائس السودانية عبدالله سردار، فقد تم خلال الحرب الجارية في السودان التعدي على ١٥٣ كنيسة، وتدمير ١٧ أخرى تدميرًا كليًا، والاعتداء على ثلاثة آلاف شخص أثناء ممارسة شعائرهم الدينية.
وقال الأمين العام لمجلس الكنائس السودانية عبدالله سردار، في تصريحات إعلامية، إن الحرب طالت العديد من الكنائس في السودان، إضافة إلى محاصرة آلاف الأشخاص في دور العبادة. وقدّر سردار تكلفة إعادة إعمار الكنائس المدمرة بنحو تسعة ملايين دولار.
وحدث تحسن كبير في الحريات الدينية خلال الفترة الانتقالية، أي عقب ثورة ديسمبر ٢٠١٩، وذلك بعد تعديل بعض القوانين لصالح المسيحيين، حيث أحدثت الحكومة الانتقالية تحسينات في أوضاع الحريات الدينية بالبلاد. كما شطبت الحكومة الأمريكية اسم السودان من قائمة الدول التي تنتهك الحريات الدينية، وذلك بقرار صادر من وزارة الخارجية الأمريكية. هذا التحسن جاء بعد سجل طويل من الانتهاكات طوال تاريخ الدولة الحديثة في السودان، حيث كان آخر تصديق رسمي لبناء كنيسة في الثمانينات، بينما لم يسمح ببناء الكنائس منذ تلك الفترة.
ولجأ بعض المسيحيين في السودان لاستئجار منازل وتحويلها لكنائس بشكل غير مرخص، وجاءت الحرب الجارية الآن لتعيد السجل المظلم للانتهاكات مجددًا إلى الواجهة.
وفي سياق حديثه عن استمرار الانتهاكات، كشف سردار عن قيام قوات الدعم السريع بالاستيلاء على عدد من الكنائس وتدميرها وتخريبها وتحويلها إلى مراكز لإدارة عملياتها العسكرية، ومنها كنيسة السيدة العذراء) بالخرطوم، حيث اتخذوها مقرَّاً لهم.
كما هاجمت قوات الدعم السريع كنيسة مارجرجس في حي المسالمة بأم درمان، ونهبت خزينة المُطرانية تحت تهديد السلاح، وأطلقت النار على المُتواجدين داخل الكنيسة، مما أدَّى إلى وقوع إصابات بينهم. واستولت قوات الدعم السريع أيضًا على الكنيسة الأسقفية السُّودانية بالخرطوم منذ بداية الحرب، كما تضرَّرت كنيسة مارجرجس بالمسالمة، وكنيسة مارجرجس ببحري، والكنيسة الإنجيلية ببحري، والكنيسة الأسقفية، وكنيسة العذراء مريم المطرانية.
وفي إطار مساعيه لتدارك الأمر، أطلق رئيس مجلس الكنائس السوداني عزالدين الطيب نداءً إنسانيًا عالميًا حول وضع المسيحيين في السودان، مطالبًا من المجتمع الدولي والكنسي تنسيق خطة طوارئ لحماية المسيحيين ومقدساتهم.
في السياق ذاته، يقول مدير الجمعية الوطنية للحريات الدينية محمد صلاح: “بعد اندلاع الحرب، توجد انتهاكات كبيرة للحريات الدينية طالت الأفراد ودور العبادة من مساجد وكنائس”. وحول أسباب الاستهداف، يضيف صلاح: “إن الهجوم كان مُمنهجًا نحو الكنائس، ابتداء من الهجوم على الكنيسة الإنجيلية بالخرطوم، والاعتداء على كنيسة ماري جرجس في مدينة أم درمان، بجانب الكنيسة بالحاج يوسف والجريف غرب، علاوة على حرق كنيسة في مدينة ود مدني. يُعدّ كل هذا عملًا ممنهجًا من قبل الدعم السريع لتدمير بعض الكنائس”.
وأكد مدير الجمعية الوطنية للحريات الدينية محمد صلاح في حديثه لـ”الترا سودان”، تعرض الطائفة القبطية بأم درمان، لانتهاكات عديدة، حيث أُطْلِق الرصاص على منازلهم وسرقت محتوياتها، بينما اضطر السكان لمغادرة منازلهم، ما يعتبر تهجيرًا على أساس الهوية الدينية.
وطالب مدير الجمعية الوطنية للحريات الدينية، بضرورة محاسبة المتسببين في هذه الانتهاكات، وتعويض الكنائس لإعادة بنائها، مشيرًا لوجود العديد من الانتهاكات التي لم تُرْصَد نسبة لصعوبة الوصول للمناطق التي ما تزال الاشتباكات فيها مستمرة.
يقول المحامي بالمبادرة السودانية لحقوق الإنسان، محمد يوسف: “حدوث أي توترات عسكرية تستهدف أولًا حقوق الإنسان، ومنها الحريات الدينية”. مضيفًا أن هناك انتهاكات من قبل طرفي الصراع على دور العبادة من مساجد وكنائس في مناطق متفرقة من السودان.
وأضاف يوسف في حديثه لـ”الترا سودان”: “قوات الدعم السريع قصفت مجموعة مساجد في أم درمان، واستهدفت الكنائس بالنهب وضرب المتواجدين فيها وطردهم”. وطالب المحامي بالمبادرة السودانية لحقوق الإنسان، من منظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، بالضغط على الشركاء والمجتمع الدولي، لإدخال أجندة الحريات الدينية في أي عملية تفاوضية قادمة، وإبراز الانتهاكات التي تحدث ضد الأقليات الدينية، والعمل على إقامة نظام سياسي محايد تجاه الأديان.
وأردف يوسف: “إن الهجوم على أماكن العبادة خلال الحروب يُعتبر انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، سواء كان على المساجد أو الكنائس أو المعابد، أو أي مقدسات أخرى، فهمي جريمة حرب تستهدف المدنيين، وتنتهك حقوقهم في ممارسة العبادة بحرية وأمان. ويمكن أن تُعتبر هذه الانتهاكات جرائم حرب تقع تحت اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ويمكن محاسبة الأفراد الذين يقفون وراء هذه الهجمات وتقديمهم للعدالة”.
وأشار يوسف إلى نص القوانين الدولية على ضرورة احترام وحماية الأماكن الدينية والتعبد خلال النزاعات المسلحة، وأن تتخذ الأطراف المتحاربة جميع الإجراءات اللازمة لحماية هذه الأماكن، والمحافظة على سلامة المدنيين الذين يستخدمونها لممارسة عقائدهم الدينية. وفي هذا الإطار، أشار الباحث في المركز الأفريقي للعدالة والسلام، أمير سليمان، إلى أن تدمير دور العبادة يُعد انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، والاتفاقيات الدولية التي تحمي دور العبادة خلال النزاعات المسلحة. وتنص على ذلك اتفاقية جنيف الرابعة لعام ١٩٤٩، والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لعام ١٩٧٧، بجانب اتفاقية لاهاي ١٩٥٤، والتي تعد الانتهاكات ضد دور العباد ضمن جرائم الحرب، وفق ما أكده نظام روما الأساسي.
وأضاف الباحث في المركز الأفريقي للعدالة والسلام، أمير سليمان في حديثه لـ”الترا سودان”، أنه من الضرورة بمكان جلب العدالة للمتضررين، بجانب ضمان حصول المسيحيين على تعويضات لإعادة بناء الكنائس المدمرة، وإدراج قضايا المسيحيين في أي عملية اتفاق سياسي، وضمان إيراد حقوقهم وتعديل أي قوانين تنتهك الحريات الدينية.
ويلعب القانون الدولي الإنساني دورًا مهمًا في حماية حقوق الإنسان، بما في ذلك الحريات الدينية وحرية العقيدة، ويوفّر إطارًا قانونيًا لحماية حرية الدين والمعتقد والعبادة في العديد من الوثائق الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بجانب العديد من الاتفاقيات الدولية الأخرى.
ويلزم هذا القانون الدول الأعضاء بضمان الحماية الكافية لحرية الدين والعقيدة، وعدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه، أو معتقده. كما يحظر على الدول الأطراف في الاتفاقيات الدولية، فرض أي قيود غير مبررة على ممارسة الدين والعبادة، ويجب أن تكون هذه القيود متناسبة مع الأهداف المشروعة مثل الأمن العام أو الصحة العامة.
ويرجّح تقرير الحريات الدينية في السودان الصادر عن الخارجية الأمريكية، أن المسيحيين يشكلون ٥.٤ في المائة من عدد سكان السودان البالغ عددهم أكثر من ٤٣ مليونًا، إذ تُقدر أعداد المسيحيين في السودان بحوالي مليوني نسمة.