أكملت الحرب في السودان التي بدأت من الخرطوم وتمددت لتشمل مناطق واسعة بولايات دارفور وكردفان شهرها السادس، وسط اتساع في نطاق المواجهات بين الطرفين. وتسببت في مقتل آلاف الأشخاص وشردت ملايين المواطنين من مناطقهم إلى ولايات أخرى أو خارج البلاد، برغم الضغوط الكثيفة التي تمارسها أطراف دولية وإقليمية وأخرى قوى سياسية وجماعات أهلية في السودان لوقف النزاع الدامي، إلا أن الطرفين يتجاهلان دعوات التهدئة.
وتتحدث الأمم المتحدة عن معاناة ٢٠،٣ مليون سوداني من انعدام الأمن الغذائي، بينهم أكثر من ٦ ملايين شخص على بعد خطوة واحدة من المجاعة. وأفاد برنامج الأغذية العالمي بوجود أكثر من ٧ ملايين نازح في السودان قبل وبعد اندلاع الحرب.
بدأت فاطمة علي تروي قصة مدينتها (الأبيض) عاصمة ولاية شمال كردفان التي اصبحت بفعل الحرب عبارة عن دمار وخراب، وتقول إن الوضع تبدل في المدينة من الأيام الأولى للحرب، حيث كانت معظم الاشتباكات في الجزء الغربي من المدينة، تحديدا حي الوحدة ١٣. ومع تصاعد وتيرة الاشتباكات نزحت عشرات الأسر من الأحياء الغربية إلى الأحياء الشرقية التي تعد أكثر أمنا وسلامة وبعيدة عن مرمى النيران إلى حد ما.
وأدى الحصار المطبق الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مدينة الأبيض إلى أوضاع إنسانية واقتصادية بالغة التعقيد، حيث تضع هذه القوات قيودا على وصول المواد الغذائية والأدوية، وتعاني المستشفيات من ندرة في الأدوية، وهو ما يهدد بخروجها عن الخدمة كما تشهد الأسواق ارتفاعا جنونيا في أسعار السلع.
وقالت فاطمة علي: بعد زيادة حدة الاشتباكات في الشهور الأولى للحرب التي ترتب عليها انقطاع تام للكهرباء والمياه في كل أحياء المدينة، وفرضت السلطات حظر تجول بمنع الحركة بعد الساعة ٦ مساء ومنع حركة الدراجات البخارية بصورة قاطعة.
وتضيف: أصبح المصدر الأساسي للمياه لسكان الأبيض هو التناكر والمضخات مع توقف الحركة وانعدام الأمن وإيقاف معظم المصالح الحكومية والبنوك، عدم صرف المرتبات للعاملين بالدولة، تسببت في ظهور المشاكل الاقتصادية، وازدياد الباعة الجائلين، خاصة الأطفال، وزيادة أعداد النازحين في المدارس بصورة كبيرة، فضلا عن غلاء أسعار السلع الاستهلاكية خاصه الثلج والبنزين.
وأشارت إلى معاناة مطردة في الوضع الصحي بمستشفى الأبيض التعليمي بكل أقسامه، كما أعلن عن توقف العمل في (مركز الجميح) لغسيل الكلي لعدة أيام بسبب انقطاع الأدوية نتيجة استمرار القتال وعدم وجود الممرات الآمنة لإيصال المعدات والأدوية إلى المدينة.
وفي العاصمة الخرطوم قال محامون إن الاشتباكات الدامية بين الجيش وقوات الدعم بمدن الخرطوم الثلاث وولاية شمال كردفان تسببت في مقتل وإصابة نحو ٢١٨ شخصا على الأقل خلال الـ ٤٨ ساعة ماضية.
في هذا الوضع من الخوف والترقب كل لحظة لاندلاع الاشتباكات في أي لحظة، اختارات بعض الأسرة مغادرة مدينة الأبيض، لكن الطرق الرئيسية غير آمنة نتيجة لارتكازات الدعم السريع التي تقوم بنهب وقتل المواطنيين.
وتسعى قوات الدعم السريع للسيطرة على الأبيض لموقعها الاستراتيجي الرابط بين إقليمي دارفور وكردفان، ولأجل ذلك تخوض على مدى أشهر معارك ضارية ضد الجيش داخل وحول المدينة تسبب في مقتل أعداد كبيرة من المدنيين.
وتزايدت في الأسابيع الماضية حدة المواجهات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع في أمدرمان، حيث تسعى الأخيرة لمحاصرة معسكرات الجيش الواقعة في محلية كرري، شمال أمدرمان، بما في ذلك قاعدة وادي سيدنا العسكرية التي تنطلق منها معظم الطائرات الحربية التي تستهدف تمركزات الدعم السريع في مدن الخرطوم الثلاث.
وأشار الصحفي عمار حسن المقيم في أمدرمان إلى موجة نزوح كبيرة للمواطنين الذين يقطنون الحارات الغربية، منها الثورات ٢٩،١٤،١٣،٢٣،٢٥،٢٤،١٦ وهي مناطق تعرضت لاشتباكات عنيفة، ويبدو أن هناك محاولات لتهجير السكان قسريا من هذه المناطق.
وتتعرض مناطق شمال أمدرمان: المهدية، الحارات الأولى والثالثة والخامسة والثامنة والعاشرة، لضربات مدفعية بصورة شبه يومية، وأيضا مناطق الجرافة، شمال كرري، أصبحت ساحة ساخنة للمعارك مثل مناطق شمال بحري وغيرها.
وأوضح عمار أن منطقته في غرب الحارات تشهد موجة نزوح كبيرة ولايتسطيع المواطنون نقل أثاثاتهم من المنازل مما اضطرهم إلى نقل امتعتهم بعربات مجرورة بالحمير والدواب والوسائل اليدوية البدائية في النقل، وأكد ضعف الخدمات الضرورية في تلك المناطق، مثلا توقف أغلب المخابز وإغلاق المحلات التجارية والأسواق وسط الأحياء التي يتزود منها المواطنين بالاحتياجات الأساسية اليومية. مشيرا إلى أان أغلب المتاجر تغلق أبوابها عند المساء بسبب خلو المناطق وعدم وجود حركة فيها، وانتشار حالات النهب.
وقال حسن إن المياه والكهرباء تمثلان معضلة حقيقية تواجه هذه المناطق، كما تعاني مناطق غرب أمدرمان من انقطاع الكهرباء والمياه لأيام، وتعود ليوم واحد فقط، ثم تعاود الانقطاع مرة أخرى نتيجة لانتشار القوات العسكرية والأمنية وصعوبة حركة التنقل وسط الأحياء لمهندسي المياه لإصلاح الأعطال.
بينما قال آدم عبدالله، من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، إن المدينة عانت الكثير منذ بداية الصراع العبثي حيث أزهقت أرواح عديدة وتم حرق ونهب للأسواق ومنازل المواطنين كما في بقية الولايات الأخرى التي تدور فيها الحرب.
وتأثرت ولاية جنوب دارفور، بالقتال العنيف الذي بدأ في العاصمة الخرطوم وتمدد ليشمل ٤ من أصل ٥ ولايات في دارفور، حيث شهدت نيالا ومناطق كاس وأم دافوق ومرشنج قتالا ضاريا بين القوتين خلف أعدادا كبيرة من الضحايا وفر نحو ٥٠ ألف من سكان نيالا وفقا للأمم المتحدة.
وأكد آدم استمرار الاشتباكات في محيط سوق نيالا الكبير الذي يقع شرق قيادة الفرقة السادسة عشر مشاة، وأصبح السوق فارغا من المواطنين، وهو الآن ساحة للمعركة.
وأفاد أن الاشتباكات المستمرة بالمدينة جعلت المواطنيين يبحثون عن سوق بديل لشراء مستلزماتهم الضرورية للحياة، وهو سوق موقف الجنينة الذي يقع غرب مدينة نيالا وهو تحت حماية الحركات المسلحة، وأغلب سكان المدينة يتسوقون منه، فضلا عن سوق آخر وهو سوق المواشي الذي يقع في الجزء الشمالي من مدينة نيالا، وهو في قبضة الدعم السريع، وفيه تباع مسروقات المنازل وتنشط فيه تجارة الأسلحة والمخدرات ولا يستطيع أي مواطن الذهاب إليه أو التسوق منه.
وأوضح أن مدينة نيالا تعيش في رعب دائم ومستمر مع مدافع القوتين وقذائف وقناصين، وعلى رأس كل ساعة تشهد المدينة قتيلا من المواطنين، كما أن أغلب سكان مدينة نيالا هاجروا وأصبحت غالبية الأحياء فارغة، مثل حي الوادي والسينما والجمهورية والامتداد وشم النسيم والاسبتالية، وجزء كبير من حي خرطوم بليل، كرري وتكساس، وكل هذه الأحياء تم نهبها.
وإزاء هذه الأوضاع لا توجد في مدينة نيالا أي مؤسسة حكومية تعمل سوى القيادة العامة للقوات المسلحة، وكذلك هناك غياب تام للمنظمات الإنسانية والإغاثية والصحية، بينما تشهد موجة نزوح كبير جدا بشكل يومي إلى الولايات الآمنة، مثل شمال دارفور أو شرق دارفور.
ويقول آدم إن مصادر المياه في نيالا هي التناكر التي تجوب كل أرجاء المدينة، لاتوجد مشكلة كبيرة تذكر إذ لا يعترضها أحد، أما في إطار الوضع الصحي في مدينة نيالا، الآن تعمل المستشفى التركي بربع طاقتها، وهي فقط للسكان جنوب مدينة نيالا، أما بقية المشافي فهي خارج الخدمة، بدءا بمستشفى نيالا الكبير والمستشفى التخصصي والشرطة و(السلاح الطبي فقط لجرحى العمليات القوات المسلحة) بالإضافة إلى عمل بعض الصيدليات في موقف الجنينة ومركزين صحيين، وهي مراكز خاصة بتكاليف مالية عالية بدون أطباء متخصصين، ولا وجود لمراكز غسيل الكلي في المدينة.
تم إنتاج هذا التقرير، الذي نُشر في الأصل في صحيفة مواطنون، من خلال تعاون وايامو المستمر مع شبكة من الصحفيين السودانيين كجزء من مشروعها المستمر “بناء قدرات المجتمع المدني وقطاع العدالة في السودان” الذي تم إطلاقه في مارس ٢٠٢٢. ويهدف المشروع إلى تعزيز قدرة المجتمع المدني والجهات الفاعلة القانونية في السودان أثناء مشاركتهم في عملية العدالة الانتقالية. ويتم تدريب الأفراد على القانون الجنائي الدولي والقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان، ويتم تزويدهم بالمعرفة اللازمة للتعامل مع قضايا الجرائم الخطيرة التي تعرض على المحاكم، بطريقة تتسم بالكفاءة والفعالية.