يعتبر مطلب العدالة إزاء الانتهاكات المتعددة التي وقعت في السودان خلال العقود الماضية مطلبا أساسيا لدى قطاع واسع من السودانيين.
فبعد سنوات من الصراعات والانتهاكات، لا يزال هناك العديد من القضايا التي لم تجد سبيلها إلى ساحة التقاضي، ورغم أن بعضها وجدت طريقها إلى المحاكم الدولية، كقضايا الانتهاكات التي وقعت في دارفور في عهد البشير، التي شرعت الجنائية الدولية في التحقيق فيها منذ العام 2005.
إلا أن العديد من القضايا لم يتم فتح باب التحقيق فيها، سواءً محليا أو دوليا، وعجزت الجنائية الدولية عن ملاحقة جرائم أخرى محتملة في السودان، خلاف الجرائم التي وقعت في دارفور، بسبب عقبات تتمثل في أن ولايتها في السودان، والممنوحة من مجلس الأمن، تقتصر على دارفور فقط.
هذا التقرير يسلط الضوء على أبرز العقبات التي تواجه عمل المحكمة، عبر استنطاق أحد أهم الفاعلين في الشأن، النشطاء السياسيين وفاعلين ضمن المجتمع المدني السوداني.
المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة قضائية دائمة مقرها في مدينة لاهاي بهولندا، تأسست لمحاكمة الأفراد المتورطين في الجرائم الأشد خطورة، مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
تعد المحكمة نموذجًا فريدًا لنظام عدالة دولي يهدف إلى محاسبة الأفراد بغض النظر عن مناصبهم أو جنسياتهم، وقد تأسست بموجب نظام روما الأساسي الذي دخل حيز التنفيذ عام 2002.
تبدأ المحاكمات بإحالة القضايا من الدول الأعضاء في المحكمة، أو عبر مجلس الأمن، أو عبر المدعي العام الخاص بالمحكمة.
يجري مكتب المدعي العام تحقيقًا أوليًا لتقييم الأدلة، وفي حال كفايتها، يتم فتح تحقيق شامل وتقديم القضية أمام هيئة قضائية. تتبع المحكمة إجراءات مشابهة للمحاكم الوطنية وتصدر أحكامًا بالإدانة أو البراءة، مع فرض عقوبات مناسبة في حالة الإدانة.
تواجه المحكمة تحديات عدة، أبرزها مبدأ التكامل، الذي يجعل تدخلها مشروطًا بعدم قدرة أو رغبة المحاكم الوطنية في التحقيق.
كما تواجه اتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول وصعوبات مالية ناجمة عن اعتمادها على التمويل الطوعي، مما يحد من قدرتها على أداء مهامها بفعالية.
فيما يخص الوضع في السودان، فإن عدم مصادقة السودان على نظام روما الأساسي جعل تدخل المحكمة الجنائية الدولية المباشر أمرًا بالغ الصعوبة.
وفي هذا السياق، أوضح القانوني عبد الباسط الحاج أن المحكمة الجنائية الدولية حصلت على اختصاصها في السودان بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 1593/2005، الذي أحال الوضع في دارفور إلى المحكمة.
وأضاف أن غياب توقيع السودان على ميثاق روما الأساسي يمنع المحكمة من فتح تحقيقات بمفردها.
وأشار الحاج في حديث لـ “جُبراكة نيوز” إلى أن توسيع نطاق ولاية المحكمة ليشمل بقية المناطق المتأثرة في السودان يتطلب إصدار قرار جديد من مجلس الأمن الدولي.
ويكون ذلك ضروريًا خصوصًا إذا أظهرت التحقيقات الأولية أدلة على وقوع جرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة.
ووفقاً للحاج، فالخيار الثاني هو أن تصادق حكومة السودان على ميثاق روما الأساسي وتطلب من المحكمة الجنائية الدولية التدخل لمساعدتها من خلال فتح تحقيقات حول الجرائم الخطيرة ومحاكمة الجناة. وفي هذه الحالة، يكون للمحكمة اختصاص في كامل أراضي السودان.
يشير الناشط عثمان آدم إلى أن علاقة السودان بالمحكمة الجنائية الدولية تثير تساؤلات عميقة، خصوصًا بعد الحرب في دارفور. على الرغم من توجيه اتهامات لشخصيات بارزة مثل عمر البشير وأحمد هرون وعلي كوشيب، إلا أن النتائج لم ترضِ الرأي العام السوداني.
وزاد إسقاط التهم عن بحر إدريس أبو قردة من الشكوك حول نزاهة الإجراءات القضائية، وقال الرأي العام يطالب المحكمة بمضاعفة جهودها لتحقيق العدالة ومحاسبة الجناة، مع آمال بأن تكون محاكمة علي كوشيب خطوة لاستعادة الثقة بالمحكمة.
أكد عثمان في حديثه لـ “جُبراكة نيوز” أن تحقيق العدالة يعد جزءًا لا يتجزأ من العدالة الانتقالية، لا سيما بعد حرب 15 أبريل التي عمّقت الانقسامات في السودان. المصالحة الحقيقية تتطلب تحقيق العدالة، الحقيقة، والرحمة لبناء مجتمع مستقر ومتماسك.
من جهتها، تدعم الناشطة تهاني عباس هذه الرؤية، مشددة على ضرورة تعميم ولاية المحكمة الجنائية الدولية، خاصة مع انتشار العنف الذي بدأ في دارفور إلى مناطق أخرى، وفق ما قالت لـ “جُبراكة نيوز” ومع ذلك، تواجه المحكمة تحديات لوجستية ومالية كبرى، مثل نقص التمويل وعدم حماية الضحايا والشهود، ما يستدعي دعمًا موحدًا من المنظمات السياسية والمجتمع الدولي.
وعلى الجانب القانوني، يوضح الخبير رفعت مكاوي أن تعميم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يواجه عقبات قانونية وسياسية ومالية. شروط تدخل المحكمة – إحالة القضية من مجلس الأمن، تصديق السودان على نظام روما الأساسي، أو تحقيق المدعي العام – غير متوفرة حاليًا، وفق ما قال.
تعقيدات مجلس الأمن وحق النقض (الفيتو) تجعل الإحالة شبه مستحيلة، في حين تعتبر الحكومة السودانية اختصاص المحكمة تهديدًا لمسؤوليها.
مع محدودية الموارد العالمية اللازمة للتحقيقات، يرى مكاوي أن السودان بحاجة لاستكشاف بدائل عملية مثل المحاكم المختلطة أو العدالة الانتقالية الوطنية. يشدد على ضرورة استمرار المجتمع المدني والسياسي في السعي لتحقيق العدالة رغم التحديات الكبيرة.
وفي تعليقه على الوضع، أشار، السياسي السوداني البارز، بكري الجاك، في حديث لـ “جُبراكة نيوز” إلى أن تعميم ولاية المحكمة الجنائية الدولية على السودان يرتبط بمجلس الأمن، وهو أمر بالغ الصعوبة بسبب الانقسامات الدولية وتضارب المصالح، وفقاً لرؤيته.