سدّت الحكومة القائمة في السودان- والتي تتّخذ من مدينة بورتسودان شرقي البلاد مقرا للعاصمة الإدارية منذ اندلاع الحرب الباب – أمام أي تعاون مع المحكمة الجنائية الدولية من خلال رفضها السماح – عبر المماطلة – في اعطاء تأشيرات لدخول محققيها إلى البلاد، وزيارة إقليم دارفور على خلفية تقارير أممية تحدثت عن وجود مقابر جماعية تضم عشرات القتلى خلال الحرب بين الجيش والدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو.
سجلٌّ حافل للحكومة في عدم التعاون مع المحكمة الجنائية منذ وقوع آلاف المدنيين في إقليم دارفور ضحية جرائم وإبادة جماعية ضد الانسانية في حرب ٢٠٠٣ -٢٠٠٥م. وعلى نفس المنوال، تكرر ذات الامر خلال الحرب – التي اندلعت منتصف أبريل ٢٠٢٣- بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وأبرز تلك الانتهاكات، وقعت في ولاية غرب دارفور؛ وهي من القضايا التي أدت إلى تحرك المحكمة الجنائية بالتنسيق مع مجلس الأمن الدولي منذ يوليو ٢٠٢٣. وقال مدعي المحكمة كريم خان، في جلسة بمقر مجلس الأمن الدولي في نيويورك إن “هناك حاجة ملحة للتحرك إلى إقليم دارفور لإنقاذ الضحايا ومنع الإفلات من المحاسبة”.
وفي يوليو ٢٠٢٣، اتهمت الأمم المتحدة رسميا قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها بارتكاب مذابح بحق آلاف المدنيين في مدينة الجنينة، وبعض القرى بغربي دارفور، وذلك بعد العثور على مقابر جماعية تضم ٨٧ جثة يُرجّح أنهم دفنوا في يوم واحد.
وتنحصر اختصاصات المحكمة الجنائية على الانتهاكات، التي تقع في إقليم دارفور وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي ١٥٩٨، والذي أحال قضايا هذا الإقليم إلى الجنائية الدولية، وبالتالي تعتبر الانتهاكات التي تقع في المنطقة من اختصاص هذه المحكمة، التي أصدرت مسبقا مذكرات توقيف بحق الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم حسين، والحاكم السابق لولاية شمال دارفور أحمد هارون، المُتهم بتسليح المجموعات المسلحة في إقليم دارفور إبان القتال ضد الحركات المتمردة من قبل نظام البشير.
ويقول الأمين العام للجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، الطيب عباس، لـ(السودانية) إن “تماطُل” السلطات السودانية وعدم الموافقة على دخول المحقّقين الدوليين التابعين للمحكمة الجنائية إلى البلاد “عملية متعمدة” لتعطيل عمل المحكمة في السودان، لأن الوضع في العامين الأخيرين ارتد إلى فترة ما قبل ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام البشير.
ويوضح عباس، أن المؤسسات العدلية في السودان أعادت عناصر معروفة بمناهضة المحكمة الجنائية الدولية، لأنه سبق وأن أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق الرئيس المعزول عمر البشير، وعبد الرحيم حسين، وأحمد هارون، مشيرا إلى أن الحكومة القائمة في السودان لا تريد التعاون مع الجنائية الدولية، على الرغم من أنها تردّد باستمرار أن الانتهاكات المشمولة بعمل هؤلاء المحققين الدوليين، أُرتُكب بواسطة الدعم السريع، التي تقاتل الجيش السوداني.
وأردف الطيب قائلا: “في اعتقادي أن الحكومة القائمة في بورتسودان، والتي يشرف عليها العسكريون على صلة بالإسلاميين، ومن هذا المنطلق يتخذون موقفا مناهضا للجنائية الدولية، لأنهم يشعرون أن أي تعاون مع المحكمة قد يقود إلى سلسلة أخرى من القضايا المعطلة في لاهاي، وأبرزها؛ قضية البشير واثنين من أبرز المعاونين له”.
وقد زار وفد من المحكمة الجنائية الدولية السودان في العام ٢٠٢١ خلال فترة الحكومة الانتقالية، برئاسة عبد الله حمدوك، حيث سمحت السلطات السودانية في ذلك الوقت للوفد بزيارة سجن كوبر شمال العاصمة، الخرطوم؛ وهو سجن مركزي كان يضم أبرز قادة النظام السابق، وهم؛ عمر البشير الملاحق من الجنائية واثنين من معاونيه؛ حسين، وهارون.
وخلال زيارة وفد الجنائية إلى العاصمة السودانية، امتنع العسكريون الذين كانوا يتقاسمون السلطة مع المدنيين، عن دعم مقترحات صممتها حكومة عبد الله حمدوك. تقضي بتسهيل التعاون مع مطلوبي الجنائية، فيما يتعلق بتسليم البشير.
ويقول الطيب عباس، إن العسكريين عارضوا توجه داخل الحكومة الانتقالية في ا ٢٠٢١ برئاسة عبد الله حمدوك، تسليم مطلوبي الجنائية الدولية وهم، البشير، وعبد الرحيم حسين، وأحمد هارون، واستخدم الجنرالات “سطوتهم” حال تنفيذ القرار. وأضاف: “استعان العسكريون بالتيارات الإسلامية في ذلك الوقت لمناهضة أي تعاون بين الحكومة الانتقالية والمحكمة الدولية، وفي نهاية المطاف، أطاح الجنرالات بالسلطة المدنية في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وتحالفوا مجددا مع الإسلاميين حتى الآن”.
واضاف المدافع عن حقوق الإنسان محمود الدرديري، إن طرفي الحرب ا(لجيش و الدعم السريع) لا يريدون أن تعمل فرق التحقيق التابعة للمحكمة الجنائية، و يعملون على عرقلة العدالة للإفلات من المساءلة أو العقاب، واضاف لـ(السودانية) عدم تحقيق العدالة سابقا في السودان، شجع على ارتكاب الانتهاكات الحالية .
ويقول المدافع الحقوقي وعضو المجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري خلال الحرب، عثمان البصري لـ(السودانية)، إن تجاهل الحكومة القائمة، والتي تدير البلاد من مدينة بورتسودان شرق السودان، لطلب محققي الجنائية الدولية بالسماح بدخول البلاد والوصول إلى الضحايا في إقليم دارفور، والبحث عن البينات على الأرض في القرى والمدن، التي شهدت انتهاكات خلال الحرب بين الجيش والدعم السريع.
ويرى البصري، أن وصول محققي الجنائية إلى مناطق شهدت انتهاكات خاصة في ولاية غرب دارفور غربي السودان، والتي شهدت مذابح جماعية، ومقتل الوالي خميس أبكر، علاوة على انتهاكات وقعت في مدينة دلنج، الواقعة تحت سيطرة الدعم، أولوية قصوى في الوقت الحالي، حتى يتدارك المحققون الأدلة على الأرض قبل أن تختفي بفعل جهات أو لعوامل طبيعية.
وأضاف البصري: “تتهم الحكومة السودانية المدعومة من الجيش قوات الدعم السريع ومجموعات متحالفة معها بارتكاب الانتهاكات في إقليم دارفور، والطبيعي أن تقوم بتسهيل عمل المحققين للوصول إلى الأدلة التي تثبت هذه الاتهامات أو تنفيها.
ويقول البصري، إن لجنة تقصي الحقائق، التي شكلتها الأمم المتحدة نهاية العام الماضي في جنيف والمعنية بالوصول إلى جميع المناطق، التي شهدت الحرب في السودان، ربما مُنعت من دخول البلاد بواسطة السلطات السودانية في ولاية البحر الأحمر، مقر العاصمة الإدارية لنظام الجنرال عبد الفتاح البرهان.
وكان المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فولكر تروك، قال في تقرير تلاه أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف مطلع مارس الماضي، إن الحكومة السودانية لم تتعاون مع لجنة تقصي الحقائق.
ويعتقد عثمان البصري، أن الحكومة السودانية لا تظهر أي نوع من أنواع التعاون مع المجتمع الدولي لإنفاذ العدالة وإنصاف الضحايا، وهذا يعود إلى طبيعة النظام، الذي يرفض كل أشكال التعاون مع المجتمع الدولي لتحقيق العدالة.
وخلال الفترة من ٢٠٠٩ إلى العام ٢٠١٩ – وهي فترة ملاحقة المحكمة الجنائية للرئيس السوداني المعزول عمر البشير – امتنعت دوائر في وزارة العدل، ووزارة الخارجية من التواصل مع المحكمة الدولية، بل قامت السلطات الأمنية بملاحقة الصحفيين والناشطين بتهمة التعاون مع المحققين الدوليين، وقضت على العشرات منهم بالسجن، بينهم من لقي مصرعه داخل المراكز الأمنية أثناء الاحتجاز.
ويقول الباحث في الشؤون الدبلوماسية السودانية، عمر عبد الرحمن لـ(السودانية)، إن المؤسسات الحكومية في السودان تتحاشى دائما التعاون مع الجنائية الدولية، ولا تظهر أي تعاون معها منذ صدور مذكرات التوقيف بحق البشير، واثنين من معاونيه، لأن النظام السياسي في البلاد خلال سلطة البشير، وضع عناصر مناهضة للعدالة الدولية في المؤسسات الحكومية والدستورية بالبلاد ولا تزال موجودة حتى اليوم.
ويُرجّح عبد الرحمن، أن الحكومة السودانية المدعومة من الجيش، والتي تسيطر على المطار الرئيسي في بورتسودان، ربما تحاول المساومة مع المجتمع الدولي، لذلك هي ليست على عجالة للسماح بدخول محققي الجنائية الدولية إلى البلاد، فهي تراقب التطورات على الأرض، وفي بعض الأحيان لا تخلو الانتهاكات التي وقعت في إقليم دارفور من وجود “أيادي خفية” للحكومة، خاصة وأن الجيش كان يسيطر على الحامية العسكرية في الجنينة والتي شهدت انتهاكات ضد المدنيين.