“بعد اضطراري لمغادرة السودان إلى المنفى إثر تهديدات بالقتل من جهات أمنية بسبب عملي الصحفي، تلقيت دعوة للمشاركة في ندوة عبر منصة إكس، جمعت أطرافًا سياسية من تحالف تقدم والكتلة الديمقراطية. لاحقًا، وبعد مشاركتي في الندوة، تلقيت تهديدات جديدة من جهات عسكرية، تحذرني من العودة إلى السودان”.
ذلك ما قاله الصحفي السوداني المقيم بالعاصمة الكينية نيروبي، إدريس عبدالله، في إفادته لـ”جبراكة نيوز”، مشيراً إلى أن التهديدات حملت بعض التعبيرات النابية، لافتاً إلى أنها ما زالت تلاحقه على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة حينما يقوم بمشاركة أخبار الانتهاكات التي يرتكبها أحد طرفي النزاع بحق مدنيين.
وأوضح عبدالله أن تلك الاتهامات تتمثل في انحيازه إلى أحد طرفي الصراع، التي تتكرر كلما أعاد مشاركة أخبار على منصات التواصل الاجتماعي تتعلق بانتهاكات يرتكبها عسكريون ضد مدنيين، مؤكداً عدم انحيازه لأي طرف في الحرب. وأضاف “فقط أقوم بنقل الحقائق التي أتوصل لها”.
وضعت الحرب الدائرة في السودان العديد من العراقيل أمام الصحفيين السودانيين، وخلال هذه الأزمة الطويلة أصبح الصحفيون أنفسهم من بين العديد من ضحايا الصراع. ويحدث هذا جنبًا إلى جنب مع تضعضع مؤسسات الدولة الرسمية، بما في ذلك أنظمتها الرقابية والقضائية، التي أصبحت في بعض الأحيان تشكل تهديدًا للصحفيين. علاوة على ذلك، فإن غياب الآليات الدولية لضمان أمن وسلامة الصحفيين يؤدي إلى تفاقم الوضع.
تعرض الصحفيون السودانيون لفظائع عديدة، بدءاً من فقدانهم لوظائفهم ومصادر دخلهم الثابتة، مروراً بحوادث قتل وتهديدات طالت حياة العديد منهم، بما في ذلك أسرهم وذويهم، كما فرضت طبيعة المهنة المحفوفة بالمخاطر – لمن حاول العمل منهم رغم تلك الظروف – تحديات إضافية.
وبحسب توثيقات وسائل إعلامية وهيئات حقوقية وصحفية، فإن بعض هذه الانتهاكات ارتكبها طرفا الصراع، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بينما ارتكبت جهات “مجهولة” انتهاكات أخرى، وشملت هذه الانتهاكات خطاب الكراهية والتحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأحياناً في شكل تهديدات أو تصنيف الصحفيين بطريقة تشكل تهديداً مباشراً لحياتهم وأمنهم، وكذلك لأسرهم وذويهم، باتهامهم بالعمل لصالح أحد طرفي الصراع.
“القتل والاحتجاز والتهديد والتشريد”. تلك كانت أبرز الانتهاكات المباشرة التي طالت صحفيين نتيجة للحرب، وفقاً لرصد أجسام صحفية وإعلامية، إذ قُتل واحتجز بعض من الصحفيين أثناء أداء أعمالهم، بينما البعض الآخر تعرض لانتهاكات لم تكن ذات صلة مباشرة بطبيعة عملهم الإعلامي.
وبحسب إحصائيات نقابة الصحفيين السودانيين، فقد قُتل 10 صحفيين، بينهم امرأتان، منذ اندلاع القتال في السودان، بينما تعرض العشرات للاعتقال والتهديد والتهجير. وبحلول نهاية أغسطس من هذا العام، سجلت النقابة 483 واقعة انتهاك ضد الصحفيين منذ بدء الحرب.
أكد نقيب الصحفيين السودانيين عبد المنعم أبو إدريس أن الحرب تركت 90 بالمائة من العاملين في المجال الإعلامي بلا دخل، وذلك في كلمة ألقاها بمناسبة الذكرى الثانية لإعادة تأسيس نقابة الصحفيين السودانيين في أغسطس الماضي.
وبحسب إحصائيات قدمتها النقابة في مايو من هذا العام، فإن الحرب قلصت عدد الصحفيين في العاصمة الخرطوم إلى أقل من 100 صحفي. وفي دارفور، إحدى أكثر مناطق الصراع في السودان، لا يزيد عدد الصحفيين هناك عن 60 صحفيا. وفي ولاية الجزيرة بوسط البلاد لا يتجاوز عدد الصحفيين 20 صحفيا، بحسب رصد الاتحاد في مايو.
ومع استحالة ممارسة العمل الصحفي من مقرات المؤسسات الإعلامية والصحفية، فإن انقطاع الإنترنت والاتصالات على نطاق واسع في السودان شكل تحديًا إضافيًا للصحفيين. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت العشرات من العاملين في مجال الإعلام إما إلى التوقف عن العمل أو الشروع في رحلة النزوح الداخلي أو اللجوء الخارجي، بحثًا عن مناطق تتوفر فيها خدمات الاتصال لمواصلة عملهم.
ويعد تاريخ اندلاع الحرب هو ذاته، تاريخ آخر صدور لطبعة ورقية لصحيفة في السودان، فحتى تاريخ كتابة التقرير لم تتمكن صحيفة سودانية أن تصدر عبر طبعة ورقية. يعود ذلك لأسباب فنية في الأساس، كتوقف المطابع الخاصة بطباعة الصحف التي كان مركزها في العاصمة المركزية الخرطوم التي شهدت اندلاع الحرب، وما زالت أحد أبرز مناطق القتال.
وتبع توقف الصحف الورقية توقف العشرات من المنصات الإعلامية السودانية والصحف الإلكترونية على الإنترنت، كنتيجة مباشرة للحرب، التي ساهمت في تشريد الآلاف من الصحفيين ضمن الملايين من السودانيين الذين قذفت بهم الحرب إلى المجهول.
وقد خلق غياب الصحفيين وانسحابهم من المشهد الإعلامي فرصة محفزة لمنصات التواصل الاجتماعي لتصبح بديلاً للإعلام بشكله الرسمي والمؤسسي، خاصة مع حاجة الناس وشغفهم لمتابعة تطورات الأحداث في البلاد.
ولم يكن انقطاع الإنترنت هو السبب الوحيد الذي دفع الصحافيين إلى الانسحاب من الساحة الإعلامية، بل لعبت تحديات أخرى فرضتها ظروف الحرب، بما في ذلك التهديدات الأمنية، دوراً كبيراً في الحد من قدرة الصحافيين على مواصلة عملهم.
يقول الصحفي مصطفى علي (اسم مستعار) لـ”جبراكة نيوز” إنه طُرد مع عدد من زملائه من صحيفة إلكترونية كان يعمل بها عن بعد، ومقرها خارج السودان، لأن إدارة الصحيفة اعتبرته غير قادر على أداء مهامه.
ويضيف مصطفى: “ما وصفته إدارة الصحيفة بـ “العجز” كان في الحقيقة عدم قدرتي على مواصلة العمل بسبب التهديدات التي تلقيتها من جهات عسكرية أثناء محاولتي تغطية الأخبار في الولاية التي أعيش فيها”.
ورصدت منصة “بيم ريبروتس” المختصة في التحقق والتقصي المعلوماتي والكشف عن شبكات التضليل العديد من الشبكات والحملات المنظمة التي نشطت على مواقع التواصل الاجتماعي والتي عملت لصالح أحد طرفي الصراع، كما كشفت تقاريرها أن الشبكات لم تكتفِ فقط بدعم أطراف الصراع بل أحياناً وظفت جهودها لمهاجمة القوى المدنية.
ورغم الجهود التي تبذلها بعض المنصات لمكافحة الأخبار المضللة أو السياسات المناهضة للانتهاكات المتعلقة بالخصوصية أو التهديد، إلا أن منصات التواصل الاجتماعي السودانية شهدت العديد من الحالات التي سعت لتضليل الجمهور السوداني، والتي تورطت فيها شبكات تعمل خفية لصالح طرفي القتال. كما مثلت تلك المنصات بيئة حاضنة للهجوم المنظم على الصحفيين والمنصات الإعلامية المؤسسية.
وفي الأيام الأولى للحرب، نشرت مجموعات “مجهولة” على مواقع التواصل الاجتماعي قائمة بأسماء عدد من الصحافيين السودانيين، متهمة إياهم بالولاء لأحد الأطراف المتصارعة، ووجهت لهم تهديدات شملت التهديد بالتصفية.
توضح مديرة تحرير صحيفة “التغيير” الإلكترونية، أمل محمد الحسن، أن صفحة الصحيفة على موقع فيسبوك، التي تضم أكثر من 120 ألف متابع، تعرضت لحملة بلاغات منظمة تسببت في حجبها وإغلاقها من قبل إدارة الموقع. وأضافت أن استعادة الصفحة تطلبت جهوداً مضنية.
كما لفتت أمل في حديثها لـ”جبراكة نيوز” إلى أن رئيسة تحرير الصحيفة، رشا عوض، تعرضت بشكل خاص لهجوم عنيف على مواقع والتواصل الاجتماعي، تمثل في حملات منظمة، شملت إعادة نشر صور شخصية لها ومحاولة تشويه سمعتها بادعاءات وصفتها أمل بـ “الكاذبة”.
وأضافت أن هذه الحملات اتخذت بعدا رسميا، حيث قدمت السلطات بلاغات ضد رشا وقيادات سياسية أخرى، تتضمن تهمًا قد تصل عقوبتها إلى الإعدام.
ومع ذلك، أكدت أمل أن هذه التهديدات لم تؤثر على التزام الصحيفة بأخلاقياتها المهنية واستمرارها في العمل على وقف الحرب، غير أنها اضطرت إلى إخفاء أسماء بعض مراسليها أثناء النشر، نظرًا لوجودهم داخل السودان، وذلك لحمايتهم من المخاطر التي قد يتعرضون لها، خصوصًا مع منح السلطات الأمنية سلطات واسعة لمدنيين موالين للجيش، والمعروفين بـ “المستنفرين”.
وإلى جانب العوائق التي يفرضها واقع الحرب، يواجه الصحافيون تهديداً آخر ذا طابع رسمي ومؤسسي، وهو ما يتناقض مع جوهر العمل الصحافي.
وتشير التقارير إلى أن الصحفيين في السودان يتعرضون لاستهداف السلطات من خلال القوانين التي تجعل أنشطتهم المهنية خاضعة للمساءلة القانونية. ففي الفترة من مايو إلى أغسطس من هذا العام، واجه ستة صحفيون سودانيون اتهامات رسمية، وفقاً لتقرير الربع الثالث الذي أصدرته نقابة الصحفيين. وكانت العديد من التهم تتعلق بقضايا النشر أو جوانب أخرى من العمل الصحفي، بالإضافة إلى قضايا سابقة ظهرت منذ اندلاع الحرب.
وكانت جميع البلاغات (التهم) التي رصدتها نقابة الصحفيين مؤخراً قد قدمت من قبل جهات تابعة أو موالية للقوات المسلحة السودانية، وسجلت في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش السوداني.
رغم وجود العديد من القوانين الدولية والمحلية التي تضمن حقوق الصحفيين وتهدف إلى حمايتهم، إلا أن هذه القوانين تفقد فعاليتها في ظل الحرب الدائرة في السودان، حيث ينخرط طرفا الصراع في القتال.
فالميثاق الدولي لحقوق الإنسان، ينص في المادة 19 منه على أن “لكل شخص حق في حرية الرأي والتعبير؛ ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون التقيد بالحدود الجغرافية”، كما شدد قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة رقم 21/12 (2012) على أهمية حماية الصحفيين وضمان حريتهم في التعبير دون خوف من التعرض للعنف والتهديدات.
وعلى الصعيد المحلي، تسعى نقابة الصحفيين، التي تأسست في العام 2022، إلى ضمان عدم تعرض الصحفيين للانتهاكات أثناء أداء واجباتهم. وكان هذا الجهد مهمًا في البداية حيث أصبحت أول نقابة توحد الصحفيين منذ أكثر من ثلاثة عقود. ومع ذلك، واجهت النقابة منذ إنشائها تحديات من قبل الدولة، حيث لم يتم الاعتراف بها رسميًا من قبل مسجل المنظمات العمالية في السودان، على الرغم من اعتراف المنظمات والهيئات الدولية بها كممثل للصحفيين السودانيين.