في عام ٢٠٢٠، أبدت دولة فرنسا ارتياحها الواضح بتسليم علي محمد علي عبد الرحمن المعروف باسم علي كوشيب، المشتبه به بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبالتنسيق من المحكمة الجنائية الدولية، وفرت فرنسا وسائل جوية لنقل كوشيب من جمهورية أفريقيا الوسطى إلى لاهاي. وقتها، أبدت فرنسا تأييدها بدور المحكمة الجنائية الدولية في مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم الأشد خطورة حيث استجابت على نحو طوعي لطلب المحكمة.
عندما بدأت إجراءات محاكمة علي كوشيب في الربع الأول من عام ٢٠٢٢، بدأت الكثير من الأسئلة تطرح؛ ما هي النتائج المتوقعة، خاصة، أن كوشيب ليس وحده، بل إن هناك صقور رموز النظام السابق الذين لم تستطع أي جهة الاقتراب منهم حتى بعد سقوط حكم البشير. ومن هنا يجب أن نتساءل؛ ما هي الأسباب وراء هذه العراقيل؟ والضحايا منذ عقدين يرغبون في رؤية محاكمة من أجرم في حقهم، وهجرهم، وحرق قراهم ومدنهم، ويطلبون من الجهات المعنية أن تقوم بدورها الإنساني والأخلاقي في القضية السودانية وقضية دارفور بصفة خاصة.
ومع ذلك، عكرت أولى جلسات محاكمة محمد علي عبد الرحمن (كوشيب)، أحد زعماء ميليشيات الجنجويد، أمام المحكمة الجنائية الدولية، المياه في ملف تسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، على رأسهم الرئيس السابق عمر البشير. وتم محاكمة على كوشيب أمام المحكمة الجنائية كأول مشتبه به يحاكم على الجرائم المرتكبة خلال النزاع الدامي في دارفور بغرب السودان منذ حوالي عشرين عاما.
فيما يتعلق بمعالجة العدالة والمساءلة بشأن الصراع في السودان، يوضح المهتمون بان الصراع في السودان ادي الي انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الانسان. من هنا تأتي اهمية المحكمة الجنائية الدولية للدور الكبير الذي تتمتع به حول العالم، خاصة فيما يتعلق بالنظر في الجرائم الدولية الكبري وجرائم التطهير العرقي والابادة الجماعية، باعتبارها هيئة قضائية مستقلة بصلاحية التحقيق مع الافراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الانسانية، والابادة الجماعية.
يري الخبراء، في هذا الشأن الدولي، فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، ان لديها التفويض بالتحقيق مع الافراد الذين يتحملون القدر الاكبر من المسؤولية عن الجرائم المرتكبة، مثل جرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب، وإن مشاركة المحكمة الجنائية الدولية تأتي بسبب الحاجة إلى معالجة الجرائم المنهجية والخطيرة التي ترتكب ضد المدنيين الأبرياء. في ذات الوقت، تعمل المحكمة الجنائية الدولية بشكل مستقل وغير متحيز بغض النظر عن الانتماءات أو الولاءات السياسية حيث لا تستهدف أي مجموعة أو عرق.
تواجه المحكمة الجنائية الدولية بعض التحديات، خاصة فيما يتعلق بقضية السودان، تتمثل في الاتي؛ التعاون المحدود من جانب الحكومة السودانية، اضافة الي الطبيعة المعقدة للنزاع، ومشكلة الوصول الي المعلومات، وعدم القدرة على العمل على الارض، ومحاولات تخويف الشهود، ونقص الوثائق. ورغم ذلك، فان انخراط المحكمة الجنائية الدولية في السودان يبعث برسالة قوية حول أهمية المساءلة والردع.
ويجب ان لا ننسي دور المجتمع المدني في توثيق انتهاكات حقوق الانسان، والدفاع عن الضحايا، وتقديم الدعم للمجتمعات المتضررة وزيادة الوعي فيما بينهم، اضافة الي النطر الي دور المنظمات الاقليمية والدولية، وغيرها، في توفير الموارد والخبراء. كل هذه الادوات تساعد المحكمة الجنائية الدولية بالقيام بدورها الانساني لضحايا الحرب والابادة الجماعية.
يقول عيسى يس كمبل، المحامي والمحلل السياسي، ان طرفا النزاع في السودان ما زالا يرتكبان الجرائم والانتهاكات الجسيمة في السودان، مع امتداد امد الحرب، وتوسع رقعتها داخل السودان، هذا بالإضافة الي تعنت الطرفان وعدم جديتهما في انهاء الحرب، مما وضع خيار واحد امام الشعب السوداني، وهو خيار الموت الحتمي.
وأضاف ان هذا الامر جعل المجتمع الدولي بمؤسساته المعنية يتحرك بالملف السوداني صوب الجنائية الدولية، مشيرا ان العالم أصبح قرية صغيرة، ولابد ان يواجه العدالة كل من يرفض السلام ويتورط في هذه الجرائم التي تختص بها الجنائية الدولية مثل الابادة الجماعية والتهجير القسري.
اشار عيسى ان كل هذه الجرائم تختص بها الجنائية الدولية، لطالما لم يوجد نظام قضائي داخلي مؤهل لنظر هذه الجرائم، خاصة والشعب السوداني يعيش في موت وتهجير قسري من مدينة لأخرى منذ انطلاق الحرب في ١٥ ابريل ٢٠٢٣م وحتى الان، مضيفا ان ما يجري في السودان الان من حرب وحشية بين العسكر تؤهل القادة المتورطون للمثول امام العدالة الدولية.
يقول الباحث والكاتب محمد تورشين ان إجراءات المحكمة الجنائية الدولية معقدة جدا، تشمل العديد من الاتجاهات والقضايا، اولها يجب ان تكون الدولة موقعة ومصادقة على ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية او ان يتم احالة الملف عن طريق مجلس الامن الدولي. والسودان وقع الميثاق لكنه لم يصادق البرلمان عليه.
اوضح تورشين انه بناء على التفويض من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم احمد خان الذي يقضي باستمرار التحقيقات في الانتهاكات التي وقعت في دارفور، لا سيما في مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية ان تفتح تحقيقا وفقا للتقارير الصادرة من مجلس حقوق الانسان والجهات الحقوقية. هذا رغم ان المحكمة لا تمتلك الكثير من الادوات التي تساعدها في القاء القبض على المتهمين، بل تترك الامر للدول المصادقة على ميثاق روما، وهو ايضا، مرتبط بمصالح الدول وسياساتها.
يتوقع تورشين ان يكون دور المحكمة الجنائية الدولية في الملف السوداني شكلي، خاصة في الوقت الراهن، نتيجة للتعقيدات والمماطلات التي حدثت؛ منها تجاهل مذكرات اعتقال عناصر النظام السابق، حتى في ظل الحكومة الانتقالية حيث لم يحدث اي نوع من التجاوب. ويطالب بتفعيل المحكمة الجنائية الدولية، وتقديم كل من ارتكب جرائم حرب، والجرائم ضد الانسانية، والابادة الجماعية اليها، باعتبار ان لمثل هذه الخطوة أثر ايجابي في نفوس الضحايا. واوضح ان ملف العدالة الانتقالية في ظل النظام تشوبه تعقيدات واشكاليات حيث من الصعب ان تكون ناجحة في مرحلة ما بعد الحرب.