أدى الصراع المستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منذ أبريل 2023، إلى دمار جسدي وعاطفي هائل. وبالنسبة للمدنيين السودانيين النازحين داخليًا واللاجئين في البلدان المجاورة، فإن صدمة مشاهدة العنف والنزوح والفظائع تتعمق، فيما يحذر خبراء الصحة النفسية من أن هذه الصدمة، دون تدخل مناسب وفي الوقت المناسب، قد تترك عواقب وخيمة على جيل بأكمله.
وفي إطار خطة العمل الشاملة للصحة النفسية 2013-2030 التي تلتزم جميع الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية بتنفيذها، تهدف الخطة إلى تحسين الصحة النفسية من خلال تعزيز القيادة والحوكمة الفعالة، وتقديم رعاية مجتمعية شاملة ومتكاملة، وتنفيذ استراتيجيات لتعزيز الصحة والوقاية، بالإضافة إلى تحسين نظم المعلومات والبحوث. ومع ذلك، ورغم هذه الجهود، أظهر “أطلس الصحة النفسية 2020” الصادر عن المنظمة أن التقدم المحرز حتى الآن لا يزال دون المستوى المطلوب لتحقيق الأهداف المحددة في الخطة.
‘الصدمة المرتبطة بالحرب’ هي أي تجربة مؤلمة ناتجة عن الصراع العسكري وتتضمن أحداثًا قد تهدد حياة الشخص أو سلامته الجسدية، مثل التعرض للقصف أو الإصابة بجروح خطيرة أو الاعتداء الجنسي.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن الصحة النفسية تعني حالة من الرفاه النفسي تمكن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والمساهمة في مجتمعه. وتعتبر الصحة النفسية جزءًا لا يتجزأ من الصحة العامة وحقًا أساسيًا من حقوق الإنسان.
أفاد تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية العام الماضي بزيادة كبيرة في حالات الأمراض النفسية في السودان، خاصة بعد توقف مستشفى التجاني الماحي، المستشفى الرئيسي لرعاية المرضى النفسيين في الخرطوم، عن العمل نتيجة هجوم أدى إلى إجلاء المرضى وتدمير المعدات. قبل تدميره، كان المستشفى يستقبل نحو 40 مريضًا يوميًا، معظمهم من الشباب دون الثلاثين.
ويشير المراقبون إلى أن الوضع النفسي في السودان كان مستقرًا نسبيًا قبل حرب 15 أبريل 2023، لكن بعد الهجوم على مستشفى التجاني الماحي، تفاقمت الأزمة وهرب الأخصائيون النفسيون إلى مناطق أكثر أمانًا داخل السودان أو خارجه.
كما يرى المراقبون أن الصدمة تنتشر بين المدنيين السودانيين في جميع الفئات العمرية، ولا سيما الأطفال، الذين يواجهون مناظر الدماء والجثث الملقاة على الطرقات، مما يسبب هزة نفسية قد تبقى في الذاكرة لسنوات طويلة. وفي مناطق مثل كردفان ودارفور والخرطوم، يعيش الناس في ظروف صعبة، بعد أن فقدوا كل شيء وأصبحوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية.
يروي عبدالله إدريس (اسم مستعار) من منطقة جنوب الحزام تجربته مع اندلاع الحرب قائلاً: “عندما بدأت الحرب في رمضان العام الماضي، اعتقدت أنها ستنتهي في غضون ساعات، لكن الأوضاع سرعان ما تصاعدت، وأصبحت أصوات الطائرات الحربية والقذائف تملأ الأجواء. عندها قررت الانتقال مع أسرتي إلى مدينة الحصاحيصا جنوب الخرطوم بحثًا عن الأمان.
ويواصل عبدالله حديثه عن تأثير الحرب على نفسيته: “ذاكرتي لا تزال مثقلة بالكوابيس. أحلم باستمرار بأصوات القذائف والطائرات، وتلك الذكريات أصبحت جزءًا لا ينفصل عن حياتي اليومية. أحتاج إلى وقت طويل للعلاج”. ويطرح عبدالله تساؤلًا مؤلمًا: “تخيل أن تُدفن جثث الموتى داخل المنازل بدلًا من المقابر. كيف لمن عاش تلك التجارب أن يكون في حالة نفسية مستقرة؟ لا أظن ذلك إطلاقًا”.
وبدورها، تصف إسراء علي هارون، التي تقيم في معسكر لجوء بتشاد، مشاهد العنف والدمار في غرب دارفور بقولها: “ما رأيته من قتل وحرق للمنازل أدى إلى إصابة الكثيرين بالاكتئاب، والوضع النفسي في أسوأ حالاته.” وتضيف أن هناك نقصًا كبيرًا في دور المنظمات الإنسانية التي تقدم الدعم النفسي، داعيةً الجهات الرسمية إلى توفير العلاج النفسي والاجتماعي لضحايا الحرب. وأكدت إسراء أن الدعم الاجتماعي يلعب دورًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار النفسي للمتضررين.
وفي هذا السياق، تلعب منظمات الصحة النفسية دورًا هامًا في معالجة اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) في السودان، حيث يعتمد العلاج بشكل أساسي على الأساليب المعرفية السلوكية التي تهدف إلى مساعدة المرضى على فهم مشاعرهم والتحكم فيها. يهدف هذا النوع من العلاج إلى استعادة التوازن النفسي، مما يساعد المرضى على فصل مشاعر الخوف والقلق عن الذكريات المرتبطة بالصدمة.
ويؤكد الدكتور ياسر موسى، استشاري الصحة النفسية، أن الآثار النفسية للحرب هي الأكثر عمقًا وخطورة، خاصة على الأطفال والنساء وكبار السن. ويرى أن هذه الآثار تبدأ بالشعور بالعزلة والاغتراب النفسي، وتؤدي في بعض الحالات إلى أزمات نفسية خطيرة.
وتشير وثيقة “الحق في الصحة في السودان” إلى أن السياسة السودانية للصحة العقلية التي أعدت في عام 2008، هدفت إلى تعزيز الصحة النفسية، لكن التركيز على المدن الكبرى حد من وصول الخدمات إلى الأطراف. كما أن التقرير الإحصائي الصحي أشار إلى أن ولاية الخرطوم بها 23 أخصائيًا نفسيًا، في حين تعاني بقية الولايات من نقص حاد في الأخصائيين.
في الختام، يُظهر الصراع في السودان ليس فقط الدمار المادي، بل يمتد تأثيره العميق إلى الصحة النفسية للمدنيين، خاصة الأطفال والشباب الذين يعانون من صدمات الحرب كما إن الحاجة إلى تدخل عاجل لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي أصبحت ضرورة ملحة. ويجب على الحكومة السودانية والمنظمات الدولية تكثيف جهودها لضمان توفير الرعاية النفسية الشاملة للمصابين، بهدف إعادة بناء المجتمع السوداني المتضرر ومنح الأفراد الفرصة للتعافي من آثار الحرب العميقة، وضمان مستقبل أكثر استقرارًا وسلامًا لهم.